فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَاء} [فصلت: 44]. {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44].
إذن: فالقرآن واحد، ولكن الاستقبال مختلف.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)}.
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية ينقلنا إلى آية مادية مُحسّة لا ينكرها أحد، وهي إنزال المطر من السماء، وإحياء الأرض الميتة بهذا المطر؛ ليكون ذلك دليلًا محسوسًا على قدرته تعالى، وأنه مأمون على خَلْقه.
وكأنه سبحانه يقول لهم: إذا كنتُ أنا أعطيكم كذا وكذا، وأُوفّر لكم الأمر المادي الذي يفيد عنايتي بكم، فإذا أنزلتُ لكم منهجًا ينفعكم ويُصلح أحوالكم فصدّقوه.
فهذا دليل ماديّ مُحَسّ يُوصِّلهم إلى تصديق المنهج المعنوي الذي جاء على يد الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
وقوله: {والله أَنْزَلَ مِنَ السماء مَاء} [النحل: 65].
هذه آية كونية مُحسَّة لا ينكرها أحد.
ثم يقول: {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ} [النحل: 65].
موت الأرض، أي حالة كَونْها جدباء مُقفرة لا زرعَ فيها ولا نبات، وهذا هو الهلاك بعينه بالنسبة لهم، فإذا ما أجدبتْ الأرض استشرفوا لسحابة، لغمامة، وانتظروا منها المطر الذي يُحيي هذه الأرض الميتة.. يُحييها بالنبات والعُشْب بعد أنْ كانت هامدة ميتة.
فلو قبض ماء السماء عن الأرض لَمُتُّمْ جوعًا، فخذوا من هذه الآية المحسَّة دليلًا على صدق الآية المعنوية التي هي منهج الله إليكم على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، فكما أمِنْتَنِي على الأولى فأْمَنِّي على الثانية.
وقوله: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65].
مع أن هذه الآية تُرَى بالعين ولا تُسْمع، قال القرآن: {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65].
.. لماذا؟
قالوا: لأن الله سبحانه أتى بهذه الآية لِيلْفتَهم إلى المنهج الذي سيأتيهم على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا المنهج سَيُسمع من الرسول المبلّغ لمنهج الله.
مثال ذلك أيضًا في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَدًا إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: 71].
فالضياء يُرى لا يُسمع.. لكنه قال: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} لأنه يتكلم عن الليل، ووسيلة الإدراك في الليل هي السمع.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً}.
الكون الذي خلقه الله تعالى فيه أجناس متعددة، أدناها الجماد المتمثل في الأرض والجبال والمياه وغيرها، ثم النبات، ثم الحيوان، ثم الإنسان.
وفي الآية السابقة أعطانا الحق تبارك وتعالى نموذجًا للجماد الذي اهتزَّ بالمطر وأعطانا النبات، وهنا تنقلنا هذه الآية إلى جنس أعلى وهو الحيوان.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} [النحل: 66].
والمقصود بالأنعام: الإبل والبقر والغنم والماعز، وقد ذُكِرتْ في سورة الأنعام في قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} [الأنعام: 143-144]. هذه هي الأنعام.
وقوله سبحانه: {لَعِبْرَةً} العِبْرة: الشيء الذي تعتبرون به، وتستنجون منه ما يدلكم على قدرة الصانع الحكيم سبحانه وتعالى، وتأخذون من هذه الأشياء دليلًا على صِدْق منهجه سبحانه فتصدقونه.
ومن معاني العبرة: العبور والانتقال من شيء لآخر.. أي: أن تأخذ من شيء عبرة تفيد في شيء آخر، ومنها العَبْرة {الدمعة}، وهي: شيء دفين نبهْتَ عنه وأظهرتَهُ.
والمراد بالعبرة في خلق الأنعام: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66].
مادة: سقى جاءت في القرآن مرة {سقى}، ومرة {أَسْقى}، وبعضهم قال: إن معناهما واحد، ولكن التحقيق أن لكل منهما معنًى، وإن اتفقا في المعنى العام. سقى: كما في قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21].
أي: أعطاهم ما يشربونه.، ومضارعه يَسقي، ومنها قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فسقى لَهُمَا} [القصص: 24].
أما أسقى: كما في قوله تعالى: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22].
فمعناه أنه سبحانه أنزل الماء من السماء لا يشربه الناس في حال نزوله، ولكن ليكون في الأرض لمن أراد أنْ يشربَ.. فالحق تبارك وتعالى لم يفتح أفواه الناس أثناء نزول المطر ليشربوا منه.. لا.. بل هو مخزون في الأرض لمن أراده، والمضارع من أَسْقى: يُسقي.
إذن: هناك فَرْق بين الكلمتين، وإنِ اتفقنا في المعنى العام.، وفرْق بين أن تُعطي ما يُستفَادُ منه في ساعته، مثل قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الإنسان: 21].
وبين أنْ تعطي ما يمكن الاستفادة منه فيما بعد كما في قوله: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22].
لذلك يقولون: إن الذي يصنع الخير قد يصنعه عاجلًا، فيعطي المحتاج مثلًا رغيفًا يأكله، وقد يصنعه مؤُجّلًا فيعطيه ما يساعده على الكسْب الدائم ليأكل هو متى يشاء من كسْبه.
والحق تبارك وتعالى أعطانا هذه الفكرة في سورة الكهف، في قصة ذي القرنين، قال تعالى: {حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف: 93].
فما داموا لا يفقهون قَوْلًا.. فكيف تفاهم معهم ذو القرنين، وكيف قالوا: {ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94].
نقول: الذي يريد أن يفعل الخير والمعروف يسعى إليه ويحتال للوصول إليه وكأنه احتال أنْ يفهمهم، وصبر عليهم حتى توصّل إلى طريقة للتفاهم معهم، في حين أنه كان قادرًا على ترْكهم والانصراف عنهم، وحُجّته أنهم لا يفقهون ولا يتكلمون.
فلما أراد ذو القرنين أن يبني لهم السد لن يَبْنِ هو بنفسه، بل علَّمهم كيف يكون البناء، حتى يقوموا به بأنفسهم متى أرادوا ولا يحتاجون إليه.. فقال: {آتُونِي زُبَرَ الحديد حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين قَالَ انفخوا حتى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96].
إذن: علَّمهم وأحسن إليهم إحسانًا دائمًا لا ينتهي.
وقوله: {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66].
أي: مما في بطون الأنعام، فقد ذكَّر الضمير في {بطونه} باعتبار إرادة الجنس.
وقد أراد الحق سبحانه أن يخرج هذا اللبن: {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا} [النحل: 66].
والفَرْث في كرش الحيوان من فضلات طعامه.
فالعبرة هنا أن الله تعالى أعطانا من بين الفَرْث، وهو رَوَثُ الأنعام وبقايا الطعام في كرشها، وهذا له رائحة كريهة، وشكل قذر مُنفّر، ومن بين دم، والدم له لونه الأحمر، وهو أيضًا غير مستساغ؛ ومنهما يُخرِج لنا الخالق سبحانه لبنًا خالصًا من الشوائب نقيًا سليمًا من لون الدم ورائحة الفَرْث.
ومَنْ يقدر على ذلك إلا الخالق سبحانه؟
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله واصفًا هذا اللبن: {لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66].
أي: يسيغه شاربه ويستلذّ به، ولا يُغَصُّ به شاربه، بل هو مُسْتساغ سَهْل الانزلاق أثناء الشُّرْب؛ لأن من الطعام أو الشراب ما يحلو لك ويسُوغ وتهنأ به، ولكنه قد لا يكون مريئًا.
ولذلك، فالحق سبحانه يقول: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء: 4].
هنيئًا أي: تستلِذّون به، ومريئًا: أي نافعًا للجسم، يمري عليك؛ لأنك قد تجد لَذة في شيء أثناء أَكْله أو شُرْبه، ثم يسبِّب لك متاعب فيما بَعْد، فهو هَنِيءٌ ولكنه غير مَرِيء.
فاللبن من نِعَم الله الدالة على قدرته سبحانه، وفي إخراجه من بين فَرْث ودم عبرة وعِظَة، وكأن الحق سبحانه يعطينا هذه العبرة لينقلنا من المعنى الحسيِّ الذي نشاهده إلى المعنى القيميّ في المنهج، فالذي صنع لنا هذه العبرة لإصلاح قالبنا قادرٌ على أن يصنعَ لنا من المنهج ما يُصلِح قلوبنا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}.
ثمرات النخيل هي: البلح، والأعناب هو: العنب الذي نُسمّيه الكَرْم، والتعبير القرآني هنا وإن امتنَّ على عباده بالرزق الحسن، فإنه لا يمتنّ عليهم بأن يتخذوا من الأعناب سكرًا: أي مُسْكِرًا، ولكن يعطينا الحق سبحانه هنا عبرةً فقد نزلتْ هذه الآيات قبل تحريم الخمر.
وكأن الآية تحمل مُقدّمة لتحريم الخمر الذي يستحسنونه الآن ويمتدحونه؛ ولذلك يقول العلماء: إن الذي يقرأ هذه الآية بفِطنة المستقْبِل عن الله يعلم أن لله حُكْمًا في السَّكر سيأتي.
كيف توصَّلوا إلى أن لله تعالى حُكْمًا سيأتي في السَّكر؟
قالوا: لأنه قال في وصف الرزق بأنه حسن، في حين لم يَصِفْ السَّكر بأنه حسن، فمعنى ذلك أنه ليس حسنًا؛ ذلك لأننا نأكل ثمرات النخيل {البلح} كما هو، وكذلك نأكل العنب مباشرة دون تدخُّل مِنّا فيما خلق الله لنا.
أما أنْ نُغيّر من طبيعته حتى يصير خمرًا مُسْكرًا، فهذا إفساد في الطبيعة التي اختارها الله لنا لتكون رزقًا حَسنًا.
وكأنه سبحانه يُنبّه عباده، أنَا لا أمتنُّ عليكم بما حرَّمْتُ، فأنا لم أُحرِّمه بَعْد، فاجعلوا هذا السَّكر كما ترونه متعةً لكم، ولكن خذوا منه عبرة أَنِّي لم أَصِفْه بالحُسْن؛ لأنه إنْ لم يكُنْ حَسَنًا فهو قبيح، فإذا ما جاء التحريم فقد نبهتكم من بداية الأمر.
ثم يقول تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 67].
لأن العقل يقتضي أنْ نُوازِنَ بين الشيئين، وأن نسأل: لماذا لم يوصف السَّكر بأنه حَسَن؟.. أليس معناه أن الله تعالى لا يحب هذا الأمر ولا يرضاه لكم؟
إذن: كأن في الآية نيّة التحريم، فإذا ما أنزل الله تحريم الخمر كان هذا تمهيدًا له.
والآية هي: الأمر العجيب الذي يُنبئكم الله الذي خلق لكم هذه الأشياء لسلامة مبانيكم وقوالبكم المادية، قادر ومأمون على أن يُشرّع لكم ما يضمن سلامة معانيكم وقلوبكم القيمية الروحية. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 65-69] في هذا ثلاثة سؤلاات: الألو إفراد {آية} في الثلاثة مواضع مع أن الثاني منها قد تفصل فيه الاعتبار بذكر الأنعام ولبنها وذكر ثمرات النخيل والأعناب وما يتخذ منها، فيسبق في الظاهر أن الواجب جمع آيات بخلاف الآية الأولى والثالثة فقد أفردت فقيل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، والسؤال الثاني: ما وجه ختام الأولى بقوله: {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}، والثانية {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، والثالثة: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}؟ والسؤال الثالث: ورود ضمير الأنعام مفردًا في قوله: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ}، وما الفرق بين هذا وبين الوارد في سورة المؤمنون: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} (المؤمنون: 21) والجواب عن السؤال الأول أن قوله: {لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} راجع إلى قوله: {ومن ثمرات النخيل والأعناب}.الآية، وذلك اعتبار باتخاذ السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والآعناب وهو نوع واحد، وقد أفرد في قوله: {تتخذون منه} فجاء افراد أية عن ذلك، واما اخراج اللبن من بين الفرث والدم في الآنعام فلا يرجع اليه قوله: {إن في ذلك لآية} اذ قد اغنى عن ذلك قوله: {وإن لكم في الآنعام لعبرة نسقيكم}، فقوله: {لعبرة} كاف عن {آية} ومغن ذلك الغنى.فلا حاجة للجميع بينهما، وانما مرجع أية لما ذكر من المتخذ من ثمرات النخيل والآعناب كما تبين، فليدفع هذا السؤالجملة.وكذلك الآية الآولى الاعتبار فيهابالماء المنزل من السماء، والاعتبار في الثانية بما تضمنت من أمر النحل والايحاء اليه بما ذكر، فالاعتبار في كل منها انما وقع بنوع مفرد، وما وقع من تفصيل فمصرفه إلى حال أو وصف مع وحدة النوع.
واجواب عن السؤال الثانى: أن وجه مناسبة قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65]. لقوله: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [النحل: 65]. الآية، بناء ذلك على المتصل به من قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]، ثم قال: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء} فاتصل ذكر انزال الكتاب بانزال الماء، وما سماه رحمة الا لرحمته عباده به، وماء السماء رحمة، وقد سماه بذلك، وبالمنزل من الكتاب يتذكر اعتبار الرحمة {بالماء} المنزل من السماء، ولا يحتاج في ذلك إلى كبير تذكر، بل التنبيه على إنزاله بالوارد في الكتاب مع مساهده منافعه كاف في العتبار، وفي إحياء الأرض به بعد موتها أوضح شهادة لإحياء الموتى وإخراجهم لما وعدوا به، فالتحم الكلام، وتناسب النظم والمعنى، وإنما تحصل ثمرة الكتاب المنزل بسماعه، ولذلك نهي المعرضون عنه أتباعهم فقالوا: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] وقال في قسم من رحم بسماعه من الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي} [الجن: 1و2] وإنما يستجيب سامعه إذا كان غير معرض، فإذا لم يصغ إلى اعتبار ما أعقب به من إنزال السماء، فلهذا الالتحام أعقبت الآية المذكورة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} والله أعلم.
وأما الآية الثانية فلما وقع فيها ذكر السَّكَر في قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرً} [النحل: 67] وذلك حكم لا يمكن الوصول إلى مرفة سببه ولا تعليله بطريق الحواس، ولا يوصل إلى ذلك بجهة تفكر أو اعتبار، عبر بقوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} إذ العقل يسلم إمكان ما لا تعلم له على مما ليس بمحال، فيكون مما ينفرد تعالى بعلمه، ويعجز البشر عن فهمه، وأما الآية الثالثة فمحل ومجال للتفكر ومتسع للاعتبار فناسبه قوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
والجواب عن السؤال الثالث: أي قوله: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] بإفراد الضمير وتذكيره مراد به الجنس، وقد حكى سيبويه، رحمه الله، أن من العرب من يقول: هو الأنعام، وعليه حمل آية الأنعام في تذكير الضمير، وورد في سورة المؤمنون على التأنيث والجمع لما بني على ذلك من قوله: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 21-22] فنوسب بضمير الأنعام ما أتبع به من الضمائر في قوله: فيها، ومنها، وعليها. فورد بصورة التأنيث والجمع. اهـ.